يمكن الخلوص، استناداً إلى ما سبق، إلى القول بأن المجتمعات المسلمة في جنوب أفريقيا حاولت منذ البداية أن تعيد تنظيم نفسها لتحقيق مثاليتها الدينية بلا خوف أو رهبة؛ وهو ما يعني الدخول في حالة من النضال لإزالة العقبات التي تعترض طريق تدعيم الهوية الإسلامية كافة. وعلى الرغم من أن النشأة الأولى للتنظيمات، والحركات الإسلامية الجنوب أفريقية، قد اتسمت بمحدودية الرؤية مع تركيزها على الجوانب والأبعاد الإيمانية والعقيدية للمسلم، فإنها اكتسبت بمرور الوقت المزيد من النضج والشمولية في التفكير والرؤية، بحيث إنها باتت تركز على أوجه النشاط الإنساني كافة، ولاسيما قضايا السياسة والاقتصاد والتعليم. ومع ذلك فإن ثمة تبايناً واضحاً في أنماط هذه الحركات والتنظيمات، وذلك بالنظر إلى عدة معايير ومحددات لعل من أبرزها: 1- السياق الاجتماعي والسياسي وما يفرضه من تحديات وعقبات. 2- رؤية وخبرة قادة وأعضاء هذه الحركات. 3- اختلاف الأولويات، وهو ما أضفى على بعض الحركات الإسلامية طابعاً محلياً، في حين سعى البعض الآخر في إطار الفهم الواسع لمفهوم الأمة الإسلامية أن يتجاوز الحدود الإقليمية، ويبشر برؤيته الإصلاحية. وعلى أية حال، فإن دراسة نماذج الحركية الإسلامية المعاصرة، في جنوب أفريقيا، تظهر بجلاء أنها حاولت، في معظمها، التعامل مع مطالب الدعوة والتبشير إلى الإسلام في ظل أغلبية غير مسلمة، باعتبارها تحتل مرتبة عليا في أجندة الحركة الإسلامية. أضف إلى ذلك أن بعض هذه التنظيمات تعاملت مع إشكالية الحداثة، وما تطرحه من مفاهيم، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو ما كان يعني إعادة النظر في التراث الديني والحضاري الإسلامي، وأخذ متطلبات الواقع المعاش بعين الاعتبار. ومع ذلك تظل المؤثرات الداخلية والمحلية عناصر حاكمة لمدى نجاح أو فشل الحركات الإسلامية في الواقع الجنوب الأفريقي الراهن. ([1]) محمد شهيد، الآخر في الخطابات الإسلامية الأفريقية: مسلمو جنوب أفريقيا والآخر المقهور تاريخيا – في: مؤتمر حقوق الإنسان والخطابات الدينية بعنوان “كيف نستفيد من خبرات العالم الإسلامي غير العربي”- (الإسكندرية: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2006).
مجلس اتحاد علماء جنوب أفريقيا
اتسم الخطاب الإسلامي في جنوب أفريقيا بالتنوع الشديد؛ حيث هيمنت عليه منذ القرن الماضي ثلاثة تقاليد أساسية، تمثلت في المدرسة الديوباندية، التي ظهرت في الهند في ستينيات القرن التاسع عشر، وأعطت أهمية كبيرة لعلماء الدين في تحديد الممارسات الصحيحة للإسلام. وقد تحالفت هذه المدرسة مع جماعة التبليغ التي أنشأها مولانا محمد إلياس (1885-1944) والتي قام أنصارها بالدعوة إلى الإسلام الصحيح من بيت إلى بيت، ومن مسجد إلى آخر([22]). أما الاتجاه الثاني فتمثله مدرسة بريلوي، التي نشأت على أيدي أحمد رضا خان (1856-1922) في الهند([23])، كما أنها انتقلت إلى ناتال على يد صوفي صاحب (توفى 1910). وقد وجدت هذه المدرسة الفكرية تأييداً واسعاً بين المسلمين المتحدثين بالأوردو. وقد تبنى أتباع هذه المدرسة نمطاً شعبويا من الإسلام الصوفي حيث يتم التركيز على الاحتفالات والمناسبات الإسلامية، مثل مولد النبي، وزيارة القبور والأضرحة طلباً للبركة والوسيلة. وفي المقابل فإن أتباع المدرسة الديوباندية نظروا إلى تلك الممارسات باعتبارها بدعاً وانحرافاً عن صحيح الدين؛ وهو ما أفضى إلى دخول الفريقين في صراع مفتوح خلال أعوام الثمانينيات من القرن العشرين. وقد حاولت الديوباندية أن تضفي على وجودها بعداً تنظيمياً مؤسسياً، فأنشأ أتباعها العام 1978 تلك المؤسسة،ومع ذلك فقد شهدت جنوب أفريقيا تياراً ثالثاً إصلاحياً، استلهم أفكار أبي الأعلى المودودي وسيد قطب وتراث الثورة الإيرانية. ولعل حركة الشباب المسلم تمثل تعبيراً تنظيمياً مهماً عن هذا التوجه الإصلاحي لدى الجماعة المسلمة في جنوب أفريقيا. وفي العام 1994 قامت مجموعة من المنظمات الإسلامية بتأسيس مجلس اتحاد علماء جنوب أفريقيا؛ بهدف تقديم قيادة موحدة وفعالة قادرة على التعاطي مع القضايا والمشكلات المعاصرة، التي تواجه مسلمي جنوب أفريقيا على كافة المستويات. ويضم هذا الاتحاد العام كلاً من مجلس القضاء الإسلامي، وجماعة علماء ناتال والترنسفال، التي تمثل مدرسة ديوباندي الفكرية. أضف إلى ذلك أن الاتحاد يضم جماعة علماء السُّنّة، ومجلس علماء أهل السُّنّة اللذين يمثلان مدرسة بريلوى الفكرية. وهناك أيضا مجلس علماء الكيب الشرقية والمؤتمر الإسلامي للكيب الشرقية. وأحسب أن أهمية هذا الاتحاد العام للعلماء لا تعدو كونها رمزية، نظراً لأنه لم يقم بأعمال كبرى يمكن التعويل عليها في عملية التقويم. إنه يعطي إشارة بأهمية الوحدة الإسلامية، وأنه على الرغم من الاختلافات الفكرية فإن الجماعة المسلمة على استعداد لأن تعمل في جبهة واحدة. ولعل ذلك يتضح بجلاء من الاتصالات غير الرسمية التي تجرى بين العلماء من مختلف المذاهب والمدارس الفقهية([24]). على أن التحدي الأكبر، الذي يواجه اتحاد العلماء في جنوب أفريقيا، يتمثل في ضرورة التفاعل مع الآخر غير المسلم، بما يؤدي إلى تصحيح الصور والمدركات الذهنية السلبية حول الإسلام. وقد شهدت جنوب أفريقيا الجديدة، منذ أواخر التسعينيات، جدلاً وحواراً مهماً حول أهمية الدور الإيجابي للجماعة المسلمة في محاربة الفقر والعنصرية في المجتمع. وفي هذا السياق يؤكد فريد إسحاق على ضرورة أن يتبنى مسلمو جنوب أفريقيا نهجاً تفاعلياً، يمكنهم من المساهمة في خلق عالم جديد([25]). ويلاحظ أن العلماء التقليديين ما يزالون يشكلون الرأي العام المسلم، وهو ما يعني ضرورة أن يأخذ اتحادهم على عاتقه مهمة التواصل، والحوار مع المفكرين والمثقفين المسلمين، الذين تنحصر دوائر تأثيرهم خارج المساجد. ولعل ذلك كله يطرح إشكالية السياق الإسلامي العام، حيث تعاني المجتمعات المسلمة من ازدواجية ثقافية واضحة. فالعلماء التقليديون الذين درسوا العلوم الشرعية يتحدثون بلغة تختلف عن تلك التي يتحدث بها المفكرون الذين تخرجوا من المدارس العصرية.
حركة الشباب المسلم
نشأت هذه الحركة في ديسمبر (كانون الأول) 1970، على أيدي مجموعة من رجال الأعمال والمهنيين المسلمين. وقد عقدت الحركة اجتماعها الأول في مركز السلام، الذي يشرف عليه مركز الدعوة الإسلامية التابع للشيخ أحمد ديدات. يعني ذلك أن حركة الشباب المسلم منذ نشأتها تحظى بدعم منظمات ومؤسسات العمل الإسلامي في جنوب أفريقيا. واتسمت مؤتمرات الحركة في سنواتها الأولى بالرمزية والحركية في آن وأحد. فهي تعكس ترابط الجماعة المسلمة من جانب مما يعني تأكيد الهوية الواحدة لمسلمي جنوب أفريقيا، كما أنها حددت من جانب آخر وجهة الحركة وشعبيتها المتزايدة. إذ كان عدد الحضور في هذه المؤتمرات يتجاوز الخمسة آلاف شخص([18]). ولعل أهم مناحي الجاذبية التي ارتبطت بدعوة حركة الشباب المسلم تتمثل في تتويج أنشطتها؛ حيث تضمنت إلى جانب المحاضرات الدينية، الألعاب والأنشطة الرياضية، وهو ما أعطى الانطباع للأسر المسلمة بأن الإسلام دين ودنيا ويمكن التعايش معه في بيئة لا تخلو من المتعة والاستمتاع بمباهج الدنيا. وفي العام 1973 اتضحت معالم حركة الشباب المسلم، وبنيتها التنظيمية، حيث تم افتتاح العديد من الفروع والخلايا في مختلف أرجاء جنوب أفريقيا. وكان كل فرع يقوم بانتخاب مجلس تنفيذي يقوم رئيسه بمهمة تمثيله في المجلس الإقليمي. وتخضع المجالس الإقليمية للمحاسبة من قبل المجلس الوطني العام، الذي اتخذ مقراً له في ديربان. ويلاحظ أن المؤتمرات الوطنية للحركة كانت بمثابة برلمان حقيقي للحركة. وتوضح أدبيات الحركة أنها اعتمدت على خمسة مبادئ حاكمة: أولها مبدأ وحدة الأمّة، وذلك لمواجهة الانحيازات العنصرية والولاءات الإثنية التي ظهرت بين مسلمي جنوب أفريقيا([19]). ومثال ذلك مسألة الهوية الآسيوية، أو الإشكال اللوني بين مسلمي الترنسفال. ولعل ذلك المبدأ كان يستهدف أيضاً رفع الغبن الذي وقع على المرأة والسود، وهو ما دفع بها لأن تدمج هذه العناصر المهمشة في صفوفها. ويتمثل المبدأ الثاني للحركة في التفاهم والتعليم، حيث يتم السعي لجعل تعاليم الإسلام سهلة وفي متناول الجميع. ولعل تجربة الحركة، في جعل خطب الجمعة وصلاة التراويح في رمضان باللغة الإنجليزية بدلاً من العربية، تدفع في هذا الاتجاه. فقد اعتمدت الحركة الترجمة الإنجليزية لمعاني القرآن، وكانت تقوم بتوزيعها على جميع الفروع لقراءتها مثل الخطب والصلوات. أما المبدأ الثالث للحركة فقد أعاد الاعتبار للمسجد في الإسلام باعتباره مؤسسة شاملة، وليس مجرد مكان لأداء الصلاة. فهو مركز يلتقي فيه الرجال والنساء للعبادة والتدبر في أمور الدين والدنيا([20]). المبدأ الرابع تمثل في إعادة اكتشاف شخصية المصطفى – صلى الله عليه وسلم- من خلال آيات القرآن الكريم الدالة عليه. وهو ما يعني ضرورة الاقتداء به في حياة كل مسلم. إذ ينبغي أن يكون المسلم نموذجاً يُحتذى به في حب الإنسانية والتسامح والوفاء بالوعد والإخلاص. المبدأ الخامس، الذي استرشدت به الحركة، تمثل في أهمية مشاركة المرأة ودورها في الجماعة. وقد حرصت الحركة منذ البداية على مشاركة المرأة في أنشطتها كافة، بما فيها الصلاة في المسجد. ونظرت الحركة إلى قضية المرأة من خلال هدف تحقيق وحدة الأمة المسلمة في جنوب أفريقيا. ومع ذلك فقد خصصت الحركة مجلساً خاصاً للمرأة يتم من خلاله تجنيد النساء في صفوفها. وقد واجهت الحركة انتقادات واسعة من قبل علماء جنوب أفريقيا، ولاسيما في ما يتعلق بمواقفها الفكرية والدينية، ولاسيما الموقف من المرأة وصلاتها في المسجد. ومع ذلك فإن إصرار الحركة على الابتعاد عن السياسة، وتبني استراتيجية “الحياد إلايجابي”، قد دفع بعض عناصرها إلى الانشقاق عنها في الثمانينيات (1984)، وتأسيس منظمة “نداء الإسلام”. حيث حاول هؤلاء الأعضاء عبثاً إقناع قادة حركة الشباب المسلم بالتخلي عن موقفهم المتحفظ والانضمام لحركة النضال العام في جنوب أفريقيا. على أن أبرز ما يميّز حركة الشباب المسلم، وهي تحتفل عام 2010 بمرور أربعين عاماً على إنشائها، هو تركيزها على قضايا المرأة المسلمة. فالحركة ترى أن المرأة أهملت وجردت من حقوقها في المساجد وغيرها من المؤسسات الإسلامية الأخرى في جنوب أفريقيا. وعليه فإنها ترى بأنه قد آن الأوان لسماع صوت المرأة المسلمة، كي تصبح عنصراً فاعلا ومؤثّراً في مجتمعها. واستناداً لهذا الفهم جعلت الحركة فرعاً خاصاً للمرأة في هيكلها الإداري والتنظيمي، يقوم على أمره نساء أعضاء في الحركة. ويهدف هذا التنظيم النسوي إلى زيادة وعي المرأة وتبصيرها بحقوقها التي أقرها القرآن. بالإضافة إلى ذلك دعم المرأة وتمكينها اجتماعياً وسياسياً من خلال برامج مختلفة مثل التدريب، ومساعدة مرضى نقص المناعة المكتسبة([21]). وتنخرط حركة الشباب المسلم عموماً وفرعها النسوي، على وجه الخصوص، في برامج تربوية وتدريبية عديدة، ومن ذلك: المشاركة في عملية تنظيم ورش عمل، وحلقات دراسية حول قانون الأحوال الشخصية، والتوعية الصحية، والوقاية من مرض الإيدز، وما إلى ذلك. واللافت للانتباه هنا هو أن حركة الشباب المسلم تسعى إلى تحقيق شراكة مع تنظيمات المجتمع المدني، والمؤسسات الاجتماعية القائمة التي تعمل في المجال نفسه.
مجلس القضاء الإسلامي
يمكن النظر إلى مجلس القضاء الإسلامي باعتباره “بيت العلماء”، بالنسبة للجماعة المسلمة في جنوب أفريقيا، حيث أضفى على وجودها نوعاً من الديناميكية الحركية بما يحقق لها مثاليتها الدينية في واقعها الحياتي المعاش. ليس بمستغرب أن يكون المجلس في نشأته المبكرة عام 1945 في كيب تاون رد فعل للتحديات التي واجهها المسلمون منتصف القرن العشرين([17]). وقد نُظر للمجلس منذ البداية باعتباره تنظيماً إسلامياً مستقلاً، وليس تابعاً لأي جهة أو حزب سياسي. ومع ذلك فقد كان للمجلس نضاله المعروف في مرحلة التحرر من نظام الفصل العنصري. كما أن بعض أعضائه البارزين كان لهم أنشطة سياسية وتقلدوا وظائف تنفيذية وبرلمانية عليا في الهيكل الحكومي. ويضم المجلس في عضويته العلماء وأئمة المساجد وممثلي المنظمات والمؤسسات الإسلامية كافة. وتتكون بنيته التنظيمية من ثلاثة مستويات أساسية: 1- الإمارة التي تتألف من الأعضاء المخضرمين، بالإضافة إلى رئيس المجلس ونائبيه. وتعد إمارة المجلس بمثابة الحارس الذي يحمي المجلس ويحافظ على مصداقيته أمام الجميع. 2- اللجنة التنفيذية وتتولى مسؤولية الإدارة العامة للمجلس بالإضافة إلى تنفيذ قرارات المجلس العام. 3- المجلس أو الجمعية العامة وهي تضم الأعضاء العاملين كافة. ويقوم مجلس القضاء الأعلى بالنظر في القضايا الإسلامية، والبت فيها والإشراف على المدارس الإسلامية، بما يدعم نشر التعليم والثقافة الإسلامية بين المسلمين. أضف إلى ذلك الإشراف على كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية للمسلمين، مثل: قضايا الزواج والطلاق والوفاة وما إلى ذلك.
رابعاً: التنظيمات الإسلامية الفاعلة
على الرغم من أن الجماعة المسلمة، في جنوب أفريقيا، تشكل نحو 2،3 % فقط من إجمالي السكان، فإنها اتسمت بارتفاع معدلات التعليم بين أبنائها وبمؤسسية وتنظيم أنشطتها العامة. وقد اتجهت هذه الحركية التنظيمية صوب التأكيد على الهوية الإسلامية، وإحياء الخطاب الإسلامي لمسلمي جنوب أفريقيا، ولاسيما منذ خمسينات القرن الماضي. ومن الواضح أن هذه الحركات والتنظيمات قد استلهمت مبادئها الدينية من الحركات الإسلامية المعاصرة في مصر وباكستان بالإضافة إلى تقاليد الثورة الإيرانية. وعلى أية حال تشير بعض التقديرات إلى وجود نحو 1500 تنظيم غير حكومي يخدم الجماعة المسلمة في جنوب أفريقيا.
ثالثاً: الدكتور فريد إسحاق وحركة الإسلام التقدمي
ولد فريد إسحاق العام 1959، وترعرع في كيب تاون، وهو ينتمي إلى جذور آسيوية، حيث تنتمي عائلته إلى أرخبيل المالاي. وقد صُنِّف وفقا لنظام الفصل العنصري باعتباره ملونا. ولعل تلك النشأة، في وسط نظام القهر العنصري، جعلته أكثر وعياً بسياقه المجتمعي والثقافي، فظهرت عليه أمارات الخطابة ومواجهة الجماهير العريضة منذ سن مبكرة([12]). ومع ذلك فقد شهد فريد إسحاق تحولات دينية كبرى. ففي أوائل السبعينيات انضم إلى جماعة التبليغ، حيث سافر بتأثير من تعاليمها إلى باكستان لاستكمال تعليمه الإسلامي، وقد تخرج من الجامعة الإسلامية العالمية في كراتشي. وبعد عودته من باكستان تم استقطابه للانخراط في صفوف حركة الشباب المسلم (تأسست عام 1970). وهو ما قام به بالفعل. بيد أنه سرعان ما اختلف مع قيادة وتوجهات الحركة الأمر الذي أدى إلى خروجه منها وسعيه للمساعدة في تأسيس حركة إسلامية جديدة باسم “الدعوة إلى الإسلام” عام 1984([13]). وقد تمثل الهدف من تأسيس هذه الحركة في الانخراط، بشكل كامل، في التجربة السياسية بجنوب أفريقيا. وعليه لم تتأثر الحركة كثيرا بالمجال الدولي الإسلامي، وإنما انحازت بشكل كبير لتوجهات “المؤتمر الوطني الأفريقي النضالية”، كما سوف نرى لاحقا. وقد أكمل إسحاق درجة الدكتوراه في تفسير القرآن بجامعة برمنغهام (بريطانيا)، طرح فيها رؤى تفسيرية واجتهادية جديدة ظهرت في مجملها في أطروحته للدكتوراه، والتي ظهرت بعد ذلك في شكل كتاب يحمل اسم “القرآن، والتحرر والتعددية”، بالإضافة إلى كتابه “في كوني مسلما”([14]). ومن خلال عمله النضالي في جنوب أفريقيا ضد سياسة الفصل العنصري، طالب فريد إسحاق بالاجتهاد، للتركيز على مسؤولية المسلمين في العمل ضد كل أنواع الظلم الاجتماعي، والعمل مع”الآخر” الديني لتحقيق الأهداف المشتركة في العدالة الاجتماعية. ويستشهد إسحاق بقول الإمام على بن أبي طالب: “هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين، لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال”. ثم يقوم بترجمة ذلك إلى لغة معاصرة، حيث يقول: إن عملية تفسير وتأويل النص ترتبط بالمفاهيم والمدركات المسبقة لصاحب التفسير. فإسحاق نفسه يعكس خبرة النضال الوطني متعدد الثقافات والأديان في مواجهة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا([15]). ويرى إسحاق أن الصراع متصل أيضا بتحرير النساء. ويطالب بضرورة دمج التعاليم الدينية بالواقع الاجتماعي. فالتغير الذي طرأ على طبيعة الأسرة، وزيادة القدرة على القراءة والكتابة، والاستقلال الاقتصادي المتنامي، كلها أمور تتطلب إعادة التفكير في القضايا الأخرى الخاصة بالحداثة. فالتفسيرات الدينية التقليدية السائدة تعكس مستوىً اجتماعيا كانت فيه النساء تابعات اقتصاديا، وأقل نشاطا في المجال العام. ولكن في ظل هذه التغيرات لا بد للمسلمين من ممارسة الاجتهاد كي تصبح التعاليم الدينية متصلة بالواقع الاجتماعي. ويعد إسحاق متمرداً على المنهجية التقليدية في الفكر الإسلامي، فقد دعا في كتابه الخاص بتفسير القرآن إلى إحداث ثورة حقيقة في المنهجية الإسلامية، الأمر الذي دفع به إلى القول بوجود مجموعة من الأخلاق الإسلامية المتوافقة مع القيم الليبرالية تحديداً. إنه لا يقبل بإعادة إنتاج التفسيرات والمناهج التقليدية، التي سادت في حقب تقليدية قديمة. وربما يتفق إسحاق هنا مع المفكر السوداني حسن الترابي في نظرته للتقاليد الفقهية القديمة وتمييز الترابي بين الدين والتدين. يقول إسحاق: إن منظومة الأخلاق التي ينطوي عليها القرآن، وعلى الرغم من كل شيء، لا تتعارض مع المثل الغربية السائدة اليوم. ولا شك أنه بهذا القول يسلك النهج نفسه الذي سلكه مفكرو الحداثة الإسلامية، أمثال أمير علي، الذي أعاد النظر قبل نحو مائة عام في تأويل القرآن الكريم، ليجد بين صفحاته نفس الإطار الأخلاقي الذي حكم إنجلترا في العهد الفيكتوري. ويعترف إسحاق بأنه لتجاوز أو الإلتفاف على ما هو تقليدي، أو غير ليبرالي في النصوص الإسلامية، ينبغي الوصول إلى إطار تفسيري وتأويلي جديد. وعليه فقد حاول هو أن يعيد تقويم عملية تفسير القرآن وأصول الفقه بمنهج علمي جديد. ويبدو أنه تأثر باستراتيجية خطاب ما بعد الحداثة في قراءة النص بشكل عميق ثم إخضاعه لعملية تفكيك تعقبها عملية تركيب للمعاني من خلال قراءة ذاتية للنص، وهو ما يعني ضرورة وجود المفسر الجريء الملم بواقع عصره ومجتمعه. ويطرح فريد إسحاق إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب على النحو التالي: في الوقت الحاضر يمكن للمسلمين بصفة عامة العيش مع من يخالفونهم في الدين والمعتقد، بأريحية تامة، ذلك لأنه كما يقول: “لا يوجد لديهم سوى نموذجين اثنين فقط لفهم وضعهم في العالم من حولهم. النموذج الأول يعكس وضع المسلمين في مكة قبل الهجرة، حيث عانوا مرارة الضعف والاضطهاد. والثاني هو نموذج دولة المدينة حيث يعكس الطريقة، التي عاش المسلمون بها في المدينة المنورة في نهاية المطاف”([16]). ومع ذلك، “فإن القرآن يخبرنا بنموذج ثالث يرتبط بهجرة مجموعة من المسلمين الأوائل إلى الحبشة؛ وهي مملكة مسيحية. هناك عاشوا بسلام في ظل ملك عادل، لا خوف عليهم من تأثير المسيحية عليهم أو تأثيرهم هم على المسيحيين”. وهذا هو الطريق الذي يمكن أن يسلكه المسلمون اليوم. هذه الأفكار تعبر عن قناعة فكرية ترى بأن الإسلام يمكن أن يعيش جنبا إلى جنب مع الغرب. ومع ذلك، يبدو أن هناك شروطا معينة لدمج وقبول هذه الأفكار عبر الزمن. قد يرى البعض بأنها التوازن والتماسك الاجتماعي، ويرى آخرون ضرورة تحول الفكر الإسلامي، مع توخي الحذر في تفسير وإعادة تقييم العلاقة بين الإسلام والغرب، كما حدث في القرون الوسطى.
ثانياً: أحمد ديدات وخطابه الدعوي
تشكل حالة الشيخ أحمد ديدات نموذجاً مهماً ومؤثراً، في عمل الجماعة المسلمة في جنوب أفريقيا. فقد أضحى الخطاب الدعوي المحمل بانتقادات لاذعة للتراث الكنسي المسيحي منهجاً انطلق من خلاله ديدات، ليؤثر على قطاعات واسعة من الجماهير العريضة في مختلف أرجاء المعمورة. ولذلك يرى كثير من الباحثين أن تأثيره يتجاوز تأثير العديد من المفكرين والكتاب، الذين تخصصوا في مجالات اللاهوت، والعلاقة بين الأديان([6]). ولد أحمد ديدات العام 1918 بالهند، ثم هاجر مع والده وعمره ثماني سنوات إلى ديربان بجنوب أفريقيا، بينما بقيت والدته بالهند. وقد التحق ديدات بعدد من المدارس الإسلامية في ديربان. وعلى الرغم من رغبته الجامحة بالالتحاق بالجامعة، فإنه لم يستطع إلى ذلك سبيلاً، فقرر العمل لمساعدة والده. وبالفعل تنقل في عدد من الوظائف كان من بينها العمل في مقر إرسالية مسيحية، على أطراف مدينة ديربان. وهنا حدثت نقطة التحول الفارقة في حياة الشيخ حيث وجد كتاب “إظهار الحق” الذي يسجل للمناظرات الإسلامية المسيحية بالهند خلال القرن التاسع عشر. عندئذ قرر ديدات أن يتجه للتعمق في دراسة علاقة الإسلام بالمسيحية([7]). في العام 1949 سافر أحمد ديدات إلى باكستان للمساعدة في بناء الدولة هناك، لكنه سرعان ما قرر العودة إلى جنوب أفريقيا بعد ثلاث سنوات لم تكن على مستوى توقعاته. وقد عمل ديدات في متجر يمتلكه يهودي، وهو الأمر الذي عمق من رؤيته الخاصة بالعلاقة مع الأديان الأخرى. عندئذ اتجه ديدات إلى ميدان إلقاء المحاضرات الخاصة بمقارنة الأديان. ويمكن النظر إلى عام 1957 باعتباره نقطة تحول كبرى في حياة الشيخ، حيث قام بتأسيس مركز الدعوة الإسلامية بهدف تنظيم أنشطة الدعوة، التي اقتصرت، من حيث نطاقها، على مجتمع جنوب أفريقيا. بيد أنه في العام 1982 تغير اسم هذه المؤسسة ليصبح المركز الدولي للدعوة الإسلامية، وهو ما يعني أن رسالة المركز خرجت من إطار المحلية لتحلق في سماء العالمية. ومع ذلك فإن محاضرات الشيخ ومناظراته وخطبه شكلت في جميع المراحل الركيزة الأساسية لعمل هذه المؤسسة الدعوية. ويلاحظ أن أنشطة المركز قد ازدادت في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، حيث تم افتتاح فروع في المملكة المتحدة والولايات المتحدة والهند والسعودية والإمارات، بالإضافة إلى عقد دورات تدريبية للدعوة في ديربان. كما انخرط المركز في توزيع المصاحف، وكتب الشيخ ومناظراته الشهيرة كتلك التي أجراها مع القس الأمريكي جيمي سواجرت. وقد لاقت هذه الأعمال رواجاً منقطع النظير ولا سيما في العالم الإسلامي([8]). انصرفت جهود أحمد ديدات بعيداً عن الانزلاق في القضايا الخلافية الإسلامية، مثل الانقسام السُّنّي الشيعي، أو تأسيس الدولة الإسلامية، وعوضاً عن ذلك ركز كل اهتمامه على نقض أسس التعاليم الكنسية، وتسليح المسلمين بالأدلة الدافعة لمواجهة الانتقادات المسيحية. ومن الغريب أن شهرة ديدات في هذا المجال لا ترجع لتملكه ناصية العلوم الشرعية الإسلامية، ولكن لإجادته ومعرفته الواسعة بالإنجيل، حتى أنه كان يحفظ الآيات ومواضعها في مختلف الأناجيل عن ظهر قلب. أضف إلى ذلك فإن إجادته للإنجليزية وتمكنه من مهارات الحوار والنقاش العام قد جذبت إليه ملايين الناس من كل حدب وصوب. ويعتمد ديدات في كتاباته على طرح قضايا إيمانية، وروحية تتعلق بطبيعة الكتب المقدسة. فكتيباته المعنونة: هل الإنجيل كلمة الله، و”القرآن معجزة المعجزات”، و”المسيح في الإسلام”؟ تظهر جميعها محور خطابه الدعوي. وعلى الرغم من أن آراء ديدات حول المسيح والقرآن ومحمد عليه السلام لا تخرج عن دائرة الفهم الإسلامي التقليدي؛ إلا أنه يؤكد على عظم التحريف الذي خضع له الإنجيل، وهو ما يستوجب ضرورة أن يتحول المسيحيون إلى دين الإسلام. ويلاحظ أن معظم كتابات ديدات قد اتجهت إلى نقد المسيحية، كما بينّا آنفاً، ومع ذلك فإن ثمة انتقادات وجهت لديانات أخرى مثل اليهودية والهندوسية. ويرى ديدات أن ثمة تقارباً اثنياً ودينياً بين المسلمين واليهود. فالإسلام هو الدين الذي حمله موسى إلى العالم، وجاء محمد ليكمل رسالته. لكن المشكلة الكبرى مع المسيحية وغيرها مثل الهندوسية هي الشرك. ويتجسد ذلك بوضوح في مسألة الثالوث المقدس عند المسيحيين([9]). وبإيجاز شديد فإن منهج ديدات الدعوي، وإن اتفق مع النظرة الإسلامية السائدة المتعلقة بأهل الكتاب، إلا أنه يرى بأن حجم التشويه والإهمال الذي تعرضت له الرسالات السماوية السابقة على الإسلام يجعل من المحتم على أصحابها التحول إلى شرعة الإسلام الصحيحة. وأحسب أنه يمكن فهم خطاب ديدات الدعوى، وهجومه القاسي على البعثات التبشيرية المسيحية، من خلال قراءة الواقع المحلي في جنوب أفريقيا، ولا سيما ما تعرضت له الأقلية المسلمة هناك من حملات لطمس هويتها، وتحويلها عن الإسلام. ففي ظل مجتمع الغالبية فيه مسيحية، خضع المسلمون لمحاولات دؤوبة من جانب هؤلاء المبشرين بهدف تنصيرهم وردهم عن الإسلام. وعليه يمكن تصور منهج ديدات باعتباره ردّ فعلٍ لمعاناة الجماعة المسلمة في السياق الجنوب أفريقي. وربما يمكن القول بأن “الهجوم هو خير وسيلة للدفاع” يمثل تعبيرا دقيقا لحالة أحمد ديدات وخطابه الدعوي. يقول الشيخ نفسه مبرراً الطريق الذي سلكه: “في عام 1939 حينما كانت أعمل في متجر إرسالية آدمز قرب مدرسة مسيحية تحمل نفس الاسم، وتقوم على تخريج المبشرين والقساوسة، كنت أنا ومن معي من المسلمين هدفاً سائغاً لهؤلاء المبشرين الجدد. ولم يكد يمر يوم واحد دون أن نتعرض للإيذاء من هؤلاء المسيحيين الذين اعتادوا السخرية والاستهزاء بالإسلام وبالرسول والقرآن. وحيث إنني كنت فتى يافعاً في العشرين من عمري لم أكن أملك حيلة للدفاع عن شخص أعز على من نفسي وهو محمد المبعوث رحمة للعالمين فأمضيت الليالي الطوال بلا نوم والدموع تملأ مقلتي. عندئذ قررت التوجه لدراسة القرآن والإنجيل وغيرهما من الكتب المقدسة”([10]). لقد أخذ ديدات على عاتقه، منذ ذلك الوقت، مهمة الدفاع عن الإسلام، وسيما أن وجود الأقلية المسلمة في جنوب أفريقيا كانت تعيش في “محيط من المسيحية” على حد وصفه، وكانت تواجه عملاً منظماً أشبه بالهجوم اليومي من قبل جماعات التبشير المسيحية التي كانت تحاول نشر دعوتها من منزل لمنزل عن طريق الإلتقاء الشخصي المباشر. لقد حاولت وسائل الإعلام، المملوكة للدولة العنصرية في جنوب أفريقيا، إفساد عقول المسلمين الذين لم تكن لديهم أدنى معرفة بمقارنة الأديان، فضلاً عن كونهم هدفاً لدعاية منظمة من قبل المبشرين المسيحيين. وعلى صعيد آخر فإن كلاً من الكنيسة الإنجيلية والكنيسة الهولندية البروتستانتية اللتين قدمتا الأساس اللاهوتي لنظام الفصل العنصري، قد حملتا على كواهلها مهمة الهجوم على الإسلام باعتباره ديانة باطلة. وعليه فإن المناظرات التي أجراها ديدات، وحمل فيها على البيض، كانت بمثابة رد الاعتبار للمسلمين المضطهدين([11]). وعليه يرى بعض الدارسين، أن أسلوب أحمد ديدات الدعوي كان ينظر إليه باعتباره “حائط صد” لحماية المسلمين، باعتبارهم أقلية مضطهدة في المجتمع الجنوب أفريقي. أي أنه كان بمثابة حماية لهم ودعماً لهويتهم الإسلامية أكثر من كونه خطاباً دعوياً تبشيرياً موجهاً لغير المسلمين بغرض تحويلهم للإسلام. على أية حال، فإن الشيخ أحمد ديدات، الذي وافته المنية في 2 أغسطس (آب) 2005، ظل طيلة حياته مثيراً للجدل والنقاش. فقد حظي باحترام وتأييد واسع النطاق داخل العالم الإسلامي وخارجه. بيد أن معارضيه رأوا في نهجه الدعوي تدميراً للحوار بين الأديان والحضارات. ومما لا جدال فيه أن أحداً لا يختلف على قوة يقين والتزام أحمد ديدات، وهو ما منحه سحراً لا يقاوم في مواجهة خصومه ومعارضيه.
ولم يغض الإمام هارون الطرف أبداً عن (سياقه) المجتمعي، الذي كان مكبلاً بقيود نظام الفصل العنصري البغيض، فاستخدم رابطة الشباب المسلم لدعوة كثير من الأفراد والشخصيات العامة المناهضة لـ “الأبارتهيد”، وهو ما أسهم في أن يصدر في العام 1961 كتيبا بعنوان “الدعوة إلى الإسلام” الذي ينطوي على معارضة العنف في جنوب أفريقيا([3]). ولم يقتصر في نشر أفكاره ومعتقداته الإصلاحية على جريدة “أخبار المسلمين” الشهرية، وإنما استخدم كذلك خطب الجمعة والمحاضرات العامة خلال أعوام الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. واستطاع الرجل أن يستخدم هذه اللقاءات العامة في توجيه النقد اللاذع لقوانين، وسياسات الفصل العنصري المطبقة في بلاده. وحينما نظم المؤتمر الأفريقي الجامع مسيرته الحاشدة العام 1960 في كيب تاون أكد الإمام في خطبة الجمعة على مفهوم “الأخوة الإنسانية” في الإسلام، وعلى دور المسلمين الوطني، حيث دعا أتباعه ومريديه بضرورة مساندة إخوانهم الأفارقة الذين كانوا أكثر الفئات معاناة في ظل نظام الفصل العنصري. وفي مايو(أيار) 1961، أثناء اجتماع عام في مدينة الكاب، انتقد الإمام قوانين مناطق الفصل العنصري، ووصفها بأنها غير إنسانية وغير إسلامية: “هذه القوانين تبتعد تمإماً عن مبادئ الإسلام الأساسية، وأنها صممت لإعاقة مسيرتنا السياسية وإلاقتصادية والتعليمية، إننا لا يمكن أن نقبل هذا النمط من أنماط العبودية”. ويضيف قائلا: “لقد أضحى وطننا الأم بمثابة سجن كبير، توجد فيه بعض الفتحات الضيقة لكي نتنفس من خلالها. أما اليوم فإن هذه الفتحات قد سُدّت تماماً، وشرع في بناء حائط جرانيتي صلب من حولنا حتى نصاب بالاختناق فلا يسمع العالم أصوات صيحاتنا”. وعلى الرغم من أن الإمام عبدالله هارون لم يكن عضواً في “المؤتمر الوطني الأفريقي”، إلا أنه ساند جميع أنشطته ودعمه بكافة السبل. وعندما تم تطبيق قانون المناطق في منتصف الستينيات كان الإمام من بين الذين عانوا، حيث كان عليه ترك منزله والانتقال إلى منطقة أخرى. ولعلها كانت فرصة مهمة في حياته الدعوية والإصلاحية، حيث بدأ منذ تلك اللحظة يركز على دعم الحوار الإسلامي المسيحي في ظل واقع تعددي متسامح. وفي العام 1966 قام الإمام هارون بأداء فريضة الحج هو وزوجته، ثم سافر بعدها إلى القاهرة حيث ألقى خطاباً أمام القمة الإسلامية المنعقدة هناك قي ذلك الوقت. وقد طالب رؤساء الوفود الإسلامية بضرورة دعم حركة المقاومة الوطنية في جنوب أفريقيا. وقد كان الإمام هارون على وعي تام بأهمية التعليم، ودورة في تشكيل الجماعة المسلمة في بلاده، فدعا إلى مؤتمر جامع حضرته ست من المدارس الإسلامية الكبرى في مدينة الكاب، وهو ما أفضى إلى تأسيس اتحاد المدارس الإسلامية في الكاب([4]). وفي العام 1968 قام الإمام هارون بزيارة المملكة العربية السعودية، حيث التقى خلالها الملك فيصل بن عبد العزيز، ثم سافر بعد ذلك إلى القاهرة حيث حضر بعض المناسبات الثقافية، والتقى ببعض أعضاء “المؤتمر الأفريقي الجامع”، وكذلك “المؤتمر الوطني الأفريقي”. وقد كانت وجهة الإمام هارون الأساسية هي لندن لترتيب برنامج دراسي لابنته الكبرى. على أنه كان على وعي بخطورة الأوضاع الأمنية في بلاده. وبالفعل تم إلقاء القبض على الإمام هارون صبيحة يوم 28 مايو(أيار) 1969 طبقا لقانون الإرهاب. ولم تراع السلطات مكانة الرجل أو إنسانيته، حيث عومل بمنتهى القسوة، الأمر الذي أدى إلى وفاته في محبسه في 27 سبتمبر(أيلول) 1969([5]).
أصدر الإمام عبد الله هارون دورية “المرآة الإسلامية” العام 1959، وإن كانت توقفت عن الصدور في عام 1964. ومن خلال التعاون مع بعض أصدقائه استطاع أن يصدر مجلة شهرية بعنوان “أخبار المسلمين”، حيث تولى رئاسة تحريرها. وكان لهذه المجلة تأثير واضح على الجماعة المسلمة في الكاب وغيرها من المناطق حيث اهتمت بالقضايا العامة والثقافية والاجتماعية والسياسية.
– تدريب الشباب المسلم على تولي مهمة إمامة المساجد. – إعطاء دروس دينيه للرجال والنساء في مسجد المدينة.
أولا: عبدالله هارون الإمام الشهيد
ولد الإمام عبدالله هارون في الثامن من فبراير العام 1924 بمنطقة نيولاندز – كليرومنت في الأحياء الجنوبية لمدينة “كيب تاون”، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الفلاح. على أنه سافر إلى مكة المكرمة لتلقي العلوم الإسلامية، حيث درس على يد الشيخ عبدالرحمن العلوي المالكي (المتوفى 1986). وبعد عودته من مكة المكرمة استكمل دراساته الإسلامية على أيدي الشيخ عبدالله طه جمال الدين، والشيخ إسماعيل غانيف([2]). تأثر الشيخ هارون تأثراً كبيراً، في أفكاره وأنشطته الدعوية والعامة، بمشايخه وبكتابات رواد الحركة الإسلامية والفكر الإسلامي في عصره. إذ اطلع على كتابات سيد قطب والمودودي. بيد أنه كان كثير الاحتكاك ببعض أقرانه من المعلمين والمثقفين، الذين جعلوه أكثر وعياً بالسياسة والسياق الاجتماعي في جنوب أفريقا. وللتأثير على المجتمع المحلي استطاع الإمام هارون أن يوظف بعض الأدوات المهمة، لا سيما بعد توليته إمامة مسجد كليرمونت العام 1955. فقد أسس حلقات للنقاش ودروساً تعليمية للكبار، رجالا ونساء. كما أنه قام بإعطاء الدروس الدينية خلال شهر رمضان، وجعل للنساء نصيباً في أنشطة المسجد العامة. وفي العام 1957 انضم الإمام هارون إلى مجلس القضاء الإسلامي، وانتخب رئيسا له العام 1959. وقد حرص الإمام على وحدة جميع مؤسسات ومنظمات العمل الإسلامي، والوقوف صفاً واحداً أمام الممارسات غير العادلة لحكومة جنوب أفريقيا. ولتحقيق ذلك سافر بسيارته إلى مدن كثيرة مكرساً كل خطبه ومحاضراته العامة للتأكيد على هذه المعاني. وفي العام 1958 استطاع الإمام عبدالله هارون أن يؤسس مع بعض رفاقه رابطة كليرمونت للشباب المسلم في كيب تاون وكانت تهدف إلى:
ويمكن القول إجمالا إنه إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن الزعامات الكارزمية، والشخصيات الإسلامية البارزة في جنوب أفريقيا، فإن مسلمي جنوب أفريقيا اهتموا خلال القرن العشرين بالعمل المؤسسي والجماعي الإسلامي، حتى إن البعض يطلق على هذا القرن اسم )قرن المنظمات الإسلامية(. ولعل ذلك يعكس وعياً متزايداً لدى الجماعة المسلمة في جنوب أفريقيا بأهمية الاستجابة والتفاعل مع التطورات السياسية والاجتماعية من حولهم. ويمكن أن نسوق على ذلك العديد من الأمثلة على النحو التالي: في العام 1920 قام الدكتور عبدالله عبدالرحمن بتأسيس “المنظمة السياسية الأفريقية”، والتي عرفت بعد ذلك باسم “منظمة الشعب الأفريقي”. العام 1923 تأسست جمعية “المالاي” بمنطقة الكاب، وذلك كمؤسسة دينية واجتماعية بالأساس. العام 1923 تأسيس جماعة “علماء الترنسفال” باعتبارها أول تنظيم لجماعة العلماء في جنوب أفريقيا. بيد أن هذه الجماعة ظلت غير فاعلة حتى عام 1935 حينما أعيد تفعيل دورها على يد رئيسها المفتي إبراهيم سنغلفي. العام 1945 تم تأسيس “مجلس القضاء الإسلامي” في الكيب، بهدف التركيز على الجوانب الاجتماعية والإنسانية للجماعة المسلمة. العام 1950 تم تأسيس “جماعة علماء ناتال” في ديربان، لتلبية الاحتياجات الدينية الروحية للمسلمين. كما ظهر في نفس العام “الدائرة العربية” في ديربان وتهدف إلى متابعة برنامج تعليمي يحرص على تعزيز العربية في كل مستويات التعليم: الابتدائي والثانوي والعالي وعلى المستوى العام. وسوف نحاول في هذه الورقة تتبع بعض ملامح الحركية الإسلامية في جنوب أفريقيا خلال القرن العشرين باختيار عدد من نماذج الزعامات الدينية المؤثرة والتنظيمات الفاعلة التي حاولت دعم الهوية الإسلامية والمحافظة على وحدة الجماعة المسلمة في جنوب أفريقيا.
وقد ظل السؤال المركزي، الذي شغل الخطاب الديني في جنوب أفريقيا، يدور حول كيفية التعامل مع الآخر الذي يتمثل في جبهتين متعارضتين تماماً: الأولى هي الاستعمار والفصل العنصري، أما الثانية فهي الآخر المقهور من غير المسلمين. ولعل محتوى فتوى الترنسفال الشهيرة يوضح بعضاً مما نقول. ففي بداية القرن العشرين تم استفتاء الشيخ محمد عبده في ثلاثة أمور أساسية: أولها مسألة تعلم الشافعي المذهب على أيدي إمام حنفي المذهب. وثانياً مدى جواز أكل طعام أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وثالثاً مدى جواز ارتداء الملابس الغربية. وعلى الرغم من أن الشيخ محمد عبده أفتى بجواز ذلك كله إلا أن البعض اتخذ موقفا محافظاً في التعامل مع هذه القضايا. ومع زيادة الحراك الاقتصادي للجماعة المسلمة في القرن العشرين أضحت قضية الفوائد البنكية محوراً للجدل الديني في جنوب أفريقيا.
مقدمة
إن جماعة المسلمين الأولى، التي أحضرها المستعمرون الهولنديون إلى جنوب أفريقيا في منتصف القرن السابع عشر، تنتمي إلى أصول آسيوية ولا سيما الهند والمالاي. ونظراً لأنهم غير مسيحيين فقد تم تصنيفهم باعتبارهم كفاراً، كما أنهم صنفوا كعبيد ومنفيين سياسيين. ويرى محمد شهيد أن الغالبية العظمى من هؤلاء المسلمين كانت من العبيد الذين جلبوا من مختلف أنحاء أفريقيا وآسيا، ولا سيما من مدغشقر والهند وأرخبيل المالاي. وقد كانت منطقة الكيب منذ العام 1667 مكاناً لسجناء الرأي الذين قاوموا الاستعمار الهولندي في جنوب شرق آسيا. وعليه فقد وصل إلى الكيب مع هؤلاء علماء وشيوخ طرق صوفية لعل أبرزهم على الإطلاق الشيخ يوسف بن مقصر الذي يمثل وصوله عام 1694 نقطة تحول كبرى في تاريخ تطور الجماعة المسلمة في جنوب أفريقيا([1]).